هناك مقولة تقول إن العين هي مرآة الروح، وقد أثبتت دراسة جديدة أجراها الباحثون في جامعة (هال) في المملكة المتحدة، أن العين يمكن أن تكشف أيضًا عن الصور المزيفة التي أنشأها الذكاء الاصطناعي، مما يفتح الباب أمام طرق جديدة لمكافحة التزييف العميق.
وقد نشأت الفكرة عندما كان كيفن بيمبلت، أستاذ الفيزياء الفلكية في جامعة (هال)، يدرس الصور التي أُنشئت باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل: Midjourney، و Stable Diffusion، ولاحظ أن انعكاسات الضوء في عيون الأشخاص الموجودة في هذه الصور تحمل دلائل قوية على كونها مزيفة.
وقد قادته هذه الملاحظة البسيطة إلى اكتشاف علمي مهم، وهو إمكانية استخدام تقنيات مستعارة من علم الفلك، لتحليل انعكاسات الضوء في عيون الأشخاص في الصور. وقد أثبتت هذه التقنية فعاليتها في التمييز بين الوجوه الحقيقية والوجوه التي أنشأتها أدوات الذكاء الاصطناعي.
كيف يحدث ذلك؟
يعتمد التزييف العميق على خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتوليد صور ومقاطع فيديو مزيفة ولكنها تبدو واقعية، ويحدث ذلك عبر تدريب النماذج على كميات ضخمة من البيانات المرئية، وعند إنشاء صور لوجه بشري، يستخدم الذكاء الاصطناعي معرفته الواسعة لبناء الوجه من الصفر بكسل تلو الآخر، أو توليده بناءً على وجوه أشخاص حقيقيين. ومع ذلك، نظرًا إلى أن الصور الحقيقية تحتوي على انعكاسات للضوء، فإن الذكاء الاصطناعي يضيفها أيضًا، ولكن لا يمكنه محاكاتها بدقة، وهنا ستجد فروقات دقيقة بين الصور المزيفة والحقيقة يمكن اكتشافها، مثل اختلاف انعكاس الضوء في العينين.
ولتأكيد هذه الفرضية، استعان بيمبلت، بخبرة (أديجوموكي أوولابي)، طالبة الماجستير في الجامعة، للمساعدة في تطوير برنامج يمكنه مسح عيون الأشخاص بسرعة في صور مختلفة لتقييم الاختلافات بين انعكاس الضوء في العين اليسرى واليمنى في صور الأشخاص الحقيقية والصور المزيفة.
وقد استعان الباحثان بمجموعة ضخمة من الصور الحقيقية وصلت إلى 70 ألف صورة من موقع Flickr، في حين أنشأوا الصور المزيفة للوجوه بالاستعانة بموقع This Person Does Not Exist، وهو موقع ويب يستند في عمله إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي لتوليد صور واقعية لأشخاص قد تعتقد أنهم موجودون، لكنهم ليسوا كذلك.
ومن خلال مقارنة آلاف الصور الحقيقية والصور المزيفة التي أنشأها الذكاء الاصطناعي، تمكن الباحثون من تحديد اختلافات دقيقة في انعكاسات الضوء بين العينين في الصور المزيفة، وحتى في حالات الصور التي تبدو واقعية تمامًا، مثل صورة رجل يرتدي نظارة، كانت انعكاسات العدسات مثيرة للشك.
ومع ذلك، يصعب على العين المجردة اكتشاف هذه الاختلافات الدقيقة. لذلك، لجأ الباحثان إلى استخدام تقنيات من علم الفلك، وهي: نظام (معلمات CAS)، و(مؤشر جيني) Gini index، لتحديد هذه الاختلافات بدقة عالية من خلال قياس درجة التناظر والانتظام في توزيع الضوء داخل العين.
كيف ساعدت تقنيات علم الفلك في اكتشاف الصور المزيفة؟
استخدم الباحثان أداتين مختلفتين للقياس الفلكي، وهما: نظام (معلمات CAS)، و(مؤشر جيني) Gini index، لمقارنة الضوء المنعكس في مقل العيون وتحديد التزييف العميق بدقة عالية.
ونظام (معلمات CAS)، هو نظام رياضي استخدمه علماء الفلك لعقود من الزمن لدراسة المجرات وتحليل توزيع الضوء فيها. ويعتمد هذا النظام على تحديد شدة الضوء في كل بكسل داخل صورة المجرة، وذلك من خلال ثلاث معلمات أساسية، وهي: التركيز وعدم التماثل والنعومة.
بينما (مؤشر جيني) Gini index، هو مقياس إحصائي طوره الإيطالي كورادو جيني، في عام 1912 لقياس عدم المساواة في الدخل. ويستخدمه علماء الفيزياء الفلكية لتحليل توزيع الضوء في المجرات.
ويعمل المؤشر عن طريق مقارنة توزيع شدة الضوء في صور المجرات بتوزيع مثالي متساوٍ، إذ تشير قيمة المؤشر القريبة من الصفر إلى توزيع منتظم للضوء، في حين تشير القيمة القريبة من الواحد إلى تركيز شديد للضوء في منطقة واحدة.
وعند استخدام الأداتين معًا يستطيع علماء الفلك التمييز بين أنواع مختلفة من بنية المجرات، ابتداءً من المجرات (الحلزونية) Spiral، ووصولًا إلى المجرات (الإهليلجية) Elliptical.
ومن خلال تطبيق هاتين الأداتين على صور الوجوه، ظهر أن الصور الحقيقية تتميز بتناسق دقيق في انعكاسات الضوء على العينين، وهو تناسق يصعب على الذكاء الاصطناعي محاكاته.
في هذه الصورة، الشخص الموجود في الجهة اليسرى هي (كارليت جوهانسون) وهذه صورة حقيقية، والشخص الموجود في الجهة اليمنى صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي، ويوجد أسفل الوجوه صورة للعينين تكشف عن وجود انعكاسات في مقلتي العينين متناسقة بالنسبة للشخص الحقيقي، ولكنها غير صحيحة (من وجهة نظر فيزيائية) بالنسبة للشخص المزيف.
وقد تمكنت الباحثة أديموكويي أوولابي، من اكتشاف الصور المزيفة بدقة تصل إلى 70%. ويُعدّ هذا النهج الجديد إضافة قيمة يمكن استخدامها بالتكامل مع تقنيات تحليل حركات الوجه وميض العين للكشف عن التزييف العميق بدقة.
وتعليقًا على نتائج هذه الدراسة، قال دان ميلر، عالم النفس في جامعة جيمس كوك في أستراليا: “هذه التقنيات قد لا تكون سهلة الاستخدام بالنسبة للأشخاص العاديين، ولكنها يمكن أن تساهم بنحو كبير في تطوير برامج متخصصة للكشف عن التزييف العميق، خاصة مع تزايد دقة التقنيات المستخدمة في هذا التزييف وتطورها بمرور الوقت”.
استخدام الذكاء الاصطناعي في عالم الفلك:
أثارت هذه الدراسة تساؤلًا مهمًا، وهو: إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على محاكاة الظواهر الفيزيائية المعقدة، مثل انعكاس الضوء، فهل يمكن أن يصبح أداة قوية في مجالات أخرى مثل الفيزياء الفلكية؟ بمعنى، هل يمكن استخدامه لتوليد نماذج واقعية للمجرات لدراسة تكوينها وتطورها؟
أكد كيفن بيمبلت، أستاذ الفيزياء الفلكية في جامعة (هال) وجود محاولات في هذا المجال منذ مدة، وأشار إلى دراسات أجريت خلال الأعوام السابقة، استخدم فيها الباحثون بالفعل تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل الشبكات التنافسية التوليدية (GANs)، لمحاولة إعادة بناء صور المجرات من بيانات تلسكوبات فضائية ضعيفة الجودة.
وذلك لأن الصور الفلكية غالبًا ما تتأثر بالضوضاء والتداخل، مما يجعل من الصعب استخراج المعلومات منها. وقد أثبتت هذه التقنية قدرتها على استعادة بعض تفاصيل المجرات حتى من صور ذات جودة منخفضة.
وتفتح هذه التطورات آفاقًا جديدة في مجال الفلك، فمن خلال توليد كميات ضخمة من البيانات حول المجرات، يمكن للباحثين تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على اكتشاف أنماط جديدة في الكون، مما يساعدنا في فهم أعمق لطبيعة الكون وتطوره.