ليلة البارحة شاركت بعض الإخوه برنامج الاحتفاء بضيوف الرحمن وصادف ان يكون المُحتفى بهم من مرضى السرطان شفاهم الله وذلك ضمن مبادرة بصمة شباب الخير بالأردن الشقيق ،والتي دأبت مرة في كل عام على الذهاب بأمثال هؤلاء المرضى وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة لاداء العمرة وزيارة مسجد رسول الله على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، ثم كانت هذه الليلة بالنسبة لي ليلةً تُساوي عُمرًا بأكمله.
ليلة البارحة كانت ليلة بهيجة بكل ما تحمله الكلمة من معنى غلبت فيها دموع الفرح ألم المرض ومشاعر الإيمان قسوة الوجع، وقطع فيه يقين الإجابة ارتعاش الخوف ، لم تنحدر الهمم نحو قاع اليأس مع المرض ولكنهم اجبروها لتصعد معهم نحو عنان السماء والامتنان يملأ قلوبهم ان اختارهم الله لزيارة بيته الحرام واداء مناسك العمرة وحق لهم ذلك.
ليلة البارحة كنت أنظر لاشخاص أبدانهم ظاهرها الصحة وباطنها الألم الذي لا تراه الأعين ولكن تشعر به الأجساد التي تحمل ذلك المرض الخبيث ، وما المرض الا مرض القلوب فهو داء عياء، وسقام مُستبد وعلة عصيّة، وأما مرض الجسد فهو امتحان من الله لا يودّ عليلها تفويت الأجر، ولا يتمنى سليمها الوقوع فيها، ومتى اجتمع في قلب المرء الايمان وفي جسده المرض يزيّن له ما كان يأنف منه، ويسهّل عليه ما كان يصعب عنده ويفتح الله له به بابًا ربما ظن أنه لم يُخلق بمفتاح.
ليلة البارحة شاهدت طفل في عمر الثانية عشر من عمره مصاب بسرطان الجلد وعندما نظرت إليه وجدته في عربه أطفال تدفعه أمه وكأنه ابن الثالثة، ثم غضضت بصري ورفعته أخرى لتقع عيني على ابتسامته الرقيقة وعينيه المليئة بالحياة، وبكيت كثيرًا على ابناءنا الاصحاء فهاهو ابن الثانية عشر السقيم يأتي من اقاصي الأرض وكل همه اداء العُمرة وجُل اهتمامه انجازها، لترتسم على وجهه تلك الملامح التي تُشبه ابتسامة فارس هزم كُل اعداءه وما عدو هذا الفتى الا مرضه وقد هزمه شر هزيمة، بكيت لاني أرى من ابناءنا من يتجاوز عُمره هذا العُمر بكثير وأكبر همه جهاز جديد او سيارة فارهه .
ليلة البارحة رأيت فتاتان في عمر الزهور حيث أنهن لم يتجاوزن اثنان وعشرون ربيعاً إلا أنهن بعد الانتهاء من العمرة تسأل عن كيفية التحلل من العمرة لانه لم يبقى من شعر رأسيهما ما يمكنها من التحلل بسبب الكيماوي.
وأخريين كان حلمهما أن يزورا بيت الله الحرام، ويطوفا حول الكعبة المشرفة، ويسعيان بين الصفا والمروة، لكن القدر كان اسرع من تحقيق أمنيتهما، فقبل أن يحققا رغبتهما العظيمة بيومين فقط أخذتهم المنية إلى رب العالمين، ثم سخر الله لهما من انبرى وقال أنا لها حيث أدت اثنتان ممن منّ الله عليهن بالقدوم لآداء العمرة عن نفسيهما في اليوم الاول ثم عن روح من توفاهن الله قبل القدوم فهانت السبيل حين عظمت الهمة، تقبل الله منهن وغفر الله لمن مات قبل تحقيق حلمه.
ليلةً البارحة سمعت شابًا في الثامنة عشر من عمره يقول “والله أنني حين لمست استار الكعبة بكيت بشدة ثم قلت ي الله لو قبضت روحي الآن فقد رضيت لأنني حققت اغلى أحلامي”.
الله أكبر ياصاحبي الصغير كيف صغرت في عينك الأيام يومًا تلو الآخر، وكيف تساقطت من قلبك قيمة بقية الأحلام حين زاحمها لقاءك ببيت الله الحرام، الله أكبر كيف يصغر كُل شيء في هذه الدنيا إذا كبرت الآخرة في القلوب وكان رضا الله غاية وهدف .
ولأنني ممن منّ الله عليه بإستقبال هذه الفئة منذ خمسة اعوام، فقد علمت من الاخوة هذا العام ان سبعة ممن ادوا العمرة العام الماضي قد توفاهم الله عند رجوعهم لبلدهم، وهاهنا يقف القلب حائرًا فهل نسعد لأن آخر اعمالهم آداء العمرة أم نحزن لأنهم فارقوا هذه الحياة وهم في زهرة شبابهم، وتركوا خلفهم الايتام والارامل والأمهات الثُكالى، فالله نسأل ان يجبر مصابهم ويتقبلهم مع الشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيقًا .
ولكن لعلَ ما أنساني كل ذلك الألم أنني تمعنت النظر ليلة البارحة في وجوه الحضور فوجدت الفرحة تغمر قلوبهم قبل شفاههم، والرضا يرقص متناغمًا مع الامتنان في صدورهم، كانت ايامًا معدودةً من اعمارهم لكنها تُساوي في ميزان الأيام اعمارًا مديدة،
وعند المغادرة كانت عبارات الامتنان تحاول اللحاق بتعابير وتقاسيم وجوههم ،كلها كانت تقول شكراً بحجم السماء
ولكن في حقيقة الأمر أننا نحن من كان يقول شكراً بحجم السماء لله أولاً الذي وفقنا لهذا الأمر ثم شكراً لكم أنتم الذين أتحتم لنا الفرصة لخدمة ضيوف الرحمن، وهم ليسوا بحاجة لنا ولكنه فضل الله علينا.