احتياج الانسان أمرٌ مرهقٌ وصعبٌ للغاية، خصوصاً إن كانت معاناته من مرضٍ بسيطٍ أو خطير، وأثناء فترة ضعفه تكون الكلمة الباردة أو النظرة الحادة سبباً في المه وزيادةِ همِه، فما بالك بالمعاملة المميتة!
في تلك اللحظات نهرع الى أقرب مكان نتوقع منه الحماية، ألا وهي المستشفيات او المستوصفات التي نُثرت في جميع انحاء البلاد لخدمتنا، مزودة بكل الأجهزة الحديثة والكوادر العظيمة … لكن هل هذه هي الحقيقة؟
لتعرف ذلك أيها القارئ او المستمع يتوجب عليك أن تغوص عميقاً في ذاكرتي وتمتزج مع خبرتي خلال تجربتي الصادقة.
انظر من خلال عينّي الى البداية، الى تلك الحجرة البيضاء المكدسة بالبشر، ثمة من يئن على فراش المرض وهناك من ينتظر على كرسي واخر يجلس على الارض متألما ينتظر المساعدة، ومن حولهم تجد ممرضا يتناقش مع اخر بانفعال، سيخطر لك كما حدث معي انهما يتناقشان حالة مريض حرجة تستدعي عناية شديدة، لكنك إن استطعت الاقتراب منهما أكثر سيصل اليك خلال الضجيج عبارات حماسية عن مباراة إنتهت قبل بضعة أيام!
بالتأكيد ستُصدم وتبحث عن الطبيب لتشكو له هذه المهزلة، عندها ستجده في ركن قصي يتناول كوبا من القهوة ويرد على رسائل هاتفه أو منشغلاً بأحد مواقع التواصل الإجتماعي !
وماذا عنك؟!!او عن قريبك المتألم؟!! او المرضى الذين تكدسوا في الارجاء ينتظرون فراشاً فارغاً لكنه لن يخلو لان لا أحد مستعد للنظر في حال المرضى ، تحاول التحدث إليهم برفق أولاً وعندما تقابل بردة فعل باردة على غرار:
-رجاء اهتم بشؤونك، سنستدعي الأمن لك ان لم تذعن
حينها سيتملكك الغضب وقد يمتد أكثر من لسانك إليهم، ساعتها أنت مذنب وقد أزعجت هذه الكوادر العظيمه المشغولين في الطوارئ ،ويجب أن تُسجن وتُغرم، وماذا عنك أو عن مريضك؟ بالطبع سوف يتم تجاهله ! هذه الاشكال لا تستحق العلاج!!
اغلق الباب رجاء، ورافقني الى مكان اخر، هذا المكان الذي تتجه اليه إن كنت محظوظاً وتمكنت من النجاة من كل تلك الإجراءات الإدارية وكل شخص نزق يقف خلف مكتب ويحلل اوراقك كأنك تحمل وثيقة إرهابية!!!
انها العيادة ، المكان الذي تذهب اليه لتطمئن على امورك، او لتعالج مرضاً يحتمل الانتظار، لكن الانتظار لدينا يختلف عما تفهمه هذه الشخصيات الهامة.
قبل أن تضاء انوار العيادة وغالبا يكون الوقت قُبيل صلاة الفجر يتخذ هؤلاء المرضى موقعهم على كراسي الانتظار وهم يحملون أوراق موعد عند الساعة الثامنة، وبعضهم يأتي من مناطق بعيدة لعدم توفر هذا التخصص في مدينتهم ،ينتظرون بصمت حتى يصل الموظفون ويجب تحمل روتينهم قبل أن تقدم لهم أوراقك، فلابد من لحظات التحية وتبادل الأخبار ثم أكواب القهوة التي يتم تناولها في أحد المكاتب مع دعوة الأصدقاء، بعدها يتجهون الى مكاتبهم وبملل يستلمون الأوراق وتنظيمها ثم ارسالها، تكون الساعة وقتها قد قاربت على الثامنة، لكن مهلا.. اين الأطباء يا سادة؟!
ما الذي تتحدث عنه؟ الطبيب الفلاني المبجل لن يأتي الان طبعا، قد يأتي عند العاشرة أو الحادية عشر، يجب ان تتعلم الانتظار الا يكفي انه قادم ليفحصك!
وهنا نعود لقصة التكدس ويبدأ مشوار المرضى في البحث عن ركن يقفون فيه حتى يحفظوا مكانا لهم.
دعنا نأخذ المصعد ونغادر هذه المعمعة، غالبا لن يعود هؤلاء المرضى الى بيوتهم حتى الساعة الرابعة عصرا، وطبعا لضيق الوقت سيتم منح كل منهم من دقيقتين حتى ثلاثة وإلا لن يتمكن هؤلاء المنقذون الرائعون من اللحاق بفترة الغداء!
نحن الان في طابق أعلى، وكما لاحظت طبعا البرد والهدوء يخيم على المكان وكأنما نقف امام مقبرة… أو ربما هي كذلك
هذا هو قسم التنويم، حيث تكون أنت او مريضك نزيلا هنا، تحت الرحمة التامة لكل من يرتدي اللون الأبيض هذا أن كان يملك منها شيءً إلا من رحم الله
سترقد على الفراش، تُراقب السقف، تنصت للخطوات خارج غرفتك والتي بالكاد تدخلها، وعندما تفعل تستعد لجولة من الألم البارد!
كلا ليست الحقنة، بالطبع الجميع يتألم منها، لكننا نتحدث عن نوع اخر، انها القسوة، القسوة التي تحول ملاك الرحمة الذي نأمنه على حياتنا الى مقنع مرعب ندعو الله ان لا يزورنا!
قد يوبخك بعنف إن وجدك قذراً، وقد يقلبك بوحشية حتى يقوم بتغيير فراشك بسرعة هذا أن غيره ، وسيضع الدواء في فمك دفعة واحدة ولوكان في مزاج جيد سيمنحك حاجتك من المياه، وماذا عن الحقنة المؤلمة، ستكون اشد إيلاماً إذا اعطاك إياها وسط نومك دون ايقاظك، طبعاً بعد ان يجرب عدة مرات حتى يجيد إدخالها، دون ان يُحرج نفسه بطلب المساعدة من ذوي الخبرة ، وماذا عن أخذ التحليل ؟ سيكون غالباً بعد منتصف الليل عند الساعة الثانية فجراً بعد يوماً طويل مع الالم وعندما تظفر وتُرزق بساعات نوم تهرب منها من ذلك الألم فأذا بألم البشر أشد من ألم المرض قد باغتك واقض مضجعك ليأخذ دمك .
لا بأس ستتحمل حتى تخرج من هنا سليماً معافى، لكن الطبيب أين هو ؟ هنا يا سيدي لن ترى الطبيب إلا مع زيارة الفريق الطبي برفقة الاستشاري فقط وباقي الأوقات لا تعرف لك طبيباً ومع ذلك كل يوم بعلاج مغاير، ويطلب تحاليل مختلفة صباحا ومساء، وعندما تسأله عن مصابك تراه يتمتم ببضع كلمات وتظهر عليه امارات التفكير العميق ثم يغادر دون النظر اليك أو حتى إخبارك عن نتيجة تلك التحاليل أو عن حقيقة مرضك رغم سؤالك المتكرر ، ولكن لا حياة لمن تنادي .
قد تقول: هؤلاء تعساء الحظ دون مرافق يعنى بأمورهم ،هنا اخذك لتحل مكاني، مرافقٌ لعدد من اسرتي، في بعض المستشفيات سابقاً أو لاحقاً
قف مكاني وانظر، هل تشعر بما شعرت به؟ ذلك التوتر والقلق الذي يلتهم قلبك، العجز المحبط الذي يجعلك تتردد في التقدم والسؤال، الخنوع والضعف الذي عليك أن تُجبر ذاتك على تقديمه لتحظى بعلاج يسكن الم قريبك الباكي، الخوف بعد كل زيارة مجهولة السبب من الطبيب، والصبر على كل صدمة إثر خطأ طبي أو علاجي، ابتلاع تلك الغصة المؤلمة وانت تراقب قريبك يتألم ويشكو ولا سبيل لديك إلا تصبيره وتقويته،
هل سالت على وجهك دموع الحسرة والمرارة وقلبك يناجي الله وصوتك يبتهل اليه بالدعاء ان ينقذكم مما أنتم فيه؟
راقب من خلال يأسي، هل ترى القسوة تسير على قدمين؟ هل شاهدت ملائكة الرحمة يُحلقن بأجنحة الشياطين؟ هل جُرحت من نظرات الازدراء والتعالي التي ُصوبت نحوك؟ هل وصل اليك صوت التأفف والكلمات المتذمرة منك؟
قد تصرخ هاتفاً: يكفي هذا الظلم! اين المسئول؟ اين الجهات المختصة؟ من سيتقدم لينقذنا من هذا الوضع!
لن أستطيع اجابتك معالي الوزير ، لأنني لم ارهم، لم يتقدم أحد ويأخذ الشعلة لينهض بهم، ليضع القواعد ويربت على الاكتاف، لم اجدهم وانا اتألم وأرى غيري يتألم أضعافا
هذا هو ما اخبرك عنه، هذا هو فراش الموت، ليس الفراش الذي تقاد إليه من اول دخولك لهذه الأبواب، بل هو الفراش الذي تشاهده خالياً بعد ان يفوت الأوان
لقد كُنت الان يا معالي الوزير رفيق تجربة، رحلة اخذتك لحقيقة عشتها وعاشها غيري، لكن من يدري إذا لم نجد حلا لها يوما ما
قد تكون انت التالي، الذي ينتظر على هذا الفراش.