أَسْتَشْعِرُ أَصْداءَ الطائِراتِ، وَهِيَ تُحَلِّقُ فِي سَمائِي، وَقَدْ أَضْحَتْ تِلْكَ الأَصْواتُ مَأْلُوفَةً لِي، أَوْ رُبَّما أَتَأَمَّلُ قَلِيلاً لَعَلِّي أَكُونُ أَحَدَ المُسافِرِينَ عَلَى مَتْنِ إِحْداها، مُتَّجِهاً نَحْوَ وِجْهَةٍ لا أَعْرِفُها، لِأَخُوضَ تَجْرِبَةَ السَفَرِ إلى مكانٍ أجهله. وَلٰكِنَّنِي فِي هٰذِهِ المَرَّةِ لا أُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَنِي تِلْكَ الطائِراتُ نَحْوَ تَحْقِيقِ حُلْمِي، أَوْ إِلَى واقِعِي، بَلْ أَرْنُو إِلَى مُغامَرَةٍ جَدِيدَةٍ من جُغْرافِيّةِ هٰذِهِ الأَرْضِ الكُرَوِيَّةِ، حَيْثُ اِسْتَكْشَفَ أَماكِنَ لَمْ يَسْبِقْ لِي أَنْ رَأَيْتُها مِنْ قَبْلُ، إِلَى بُقْعَةٍ نائِيَةٍ تَماماً عَنْ خُيُوطِ الحَياةِ المُتَسارِعَةِ الَّتِي تَرْبِطُنِي بِهٰذا العالَمِ. أَبْحَثُ عَنْ القَلِيلِ مِنْ السُكُونِ وَالعُزْلَةِ، لَعَلِّي أَسْتَعِيدُ بَيْنَ أَوْراقِ الشَجَرِ وَتُرابِ الأَرْضِ وَاِنْسِيابِ الماءِ نَفْسِي، وَلَعَلَّنِي أَسْتَرْجِعُ ذٰلِكَ الهُدُوءَ الَّذِي غادَرَنِي مُنْذُ زَمَنٍ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، أَوْ أَجِدُ ما أَبْحَثُ عَنْهُ، أَوْ ما يَبْحَثُ عَنِّي.
لَطالَما كانَتْ الطائِرَةُ وَسِيلَتِي لِلاِنْطِلاقِ نَحْوَ تَحْقِيقِ أَحْلامِي، أَتْرُكُ خَلْفِي قَلْبِي وَذِكْرَياتِهِ مَعَ أَهْلِي، وَاِتَّجِهْ نَحْوَ فِعْلِ ما أُحِبُّ، وَقَدْ يَشُقُّ عَلَيَّ أَحْياناً. فِي كُلِّ رِحْلَةٍ، كُنْتُ أَحْتَفِظُ فِي عُمْقِ ذاكِرَتِي بِكُنُوزٍ مِنْ اللَحْظاتِ الَّتِي تَتَراكَمُ فِي زَوايا الزَمَنِ، تِلْكَ الذِكْرَياتُ الَّتِي لَمْ تَسْتَطِعْ الحَقائِبَ أَنْ تَضُمَّها، بَلْ اِحْتَواها قَلْبِي بِشَغَفٍ. لَمْ أَكُنْ أُدْرِكُ ما إِذا كانَتْ رِحْلَتِي سَتَصِلُ إِلَى نِهايَتِها، يوماً ما، فَتارَةً أَكُونُ فِي صالَةِ الوُصُولِ، وَتارَةً أُخْرَى فِي صالَةِ المُغادَرَةِ، إِذْ إِنَّ مُغامَرَتِي فِي هٰذِهِ الحَياةِ لا تَزالُ مُسْتَمِرَّةً. أَتَمَنَّى أَنْ أَصِلَ أَخِيراً إِلَى وِجْهَتِي الآمِنَةِ بَعْدَ هٰذِهِ الرِحْلَةِ الطَوِيلَةِ، وَأَسْأَلَ نَفْسِي: هَلْ سَأَجِدُ الاِسْتِقْرارَ الَّذِي حَلَمْتُ بِهِ طَوِيلاً؟ هَلْ سَأَكْتُبُ نِهايَةً لِقِصَّتِي؟ يا ترى كيف ستكون حينها؟ هل ستعجبني؟ هل مُغامَرَتِي سَتَسْتَمِرُّ دُونَ اِنْقِطاعٍ؟ أم ماذا؟ يا ترى ما النهاية؟
أَرْغَبُ فِي أَنْ أَكُونَ ذِكْرَى مُشْرِقَةً فِي قُلُوبِ جَمِيعِ مَنْ يَتَذَكَّرُنِي فِي هٰذِهِ الحَياةِ، فَإِنِّي مُدْرِكٌ تَماماً أَنَّنِي سَأَنْحَدِرُ ذاتَ يَوْمٍ إِلَى أَعْماقِ هٰذِهِ الأَرْضِ، تارِكاً خَلْفِي مَنْ أُحِبُّ وَمَنْ أَحَبَّنِي، وَمُغادِراً عَمَلِي، غَيْرَ أَنَّ ذِكْرايَ سَتَظَلُّ حَيَّةً لا تَنْطَفِئُ.
اللّٰهُمَّ اِمْنَحْنا الثَباتَ فِي أَوْقاتِ الشِدَّةِ، يَوْمَ فُقْدانِ الأَصْدِقاءِ، يَوْمَ يُفارِقُنا عَزِيزٌ، يَوْمَ تَتَقَلَّبُ فِيهِ المَوازِينُ، يَوْمَ تَتَلاشَى فِيهِ هُوِيّاتُنا، يَوْمَ يَمْلَأُ التُرابَ أَعْيُنَنا، وَيَوْمَ لا حَوْلَ لَنا وَلا قُوَّةَ.