منذ دخول الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن إلى الرياض من أجل بناء دولة المستقبل، وذلك في عام 1319 هجري حتى إعلان توحيد البلاد في عام 1351هجري، فإن ذاكرته تختزن الكثير من الأحداث والتفاصيل التي عاشها أثناء رحلة توحيد أطراف البلاد التي باتت في وقتنا الحاضر تعيش أبهَى صورها، غير أن ليالي الملك المؤسس حافلة بالقصص التي وثقها المؤرخون مابين انتصارات وتخطيط لاستعادة البلاد من خصومه في حراك دائم لم ينقطع.
ووثق أمين الريحاني المؤرخ والأديب اللبناني في كتابه تاريخ نجد الحديث وملحقاته تفاصيل ما يُعرف بـ” ليلة الظافر” تشير معطياتها إلى أن الملك عبد العزيز كان له زوجة تقطن القصيم يزورها من حين إلى حين، وفي إحدى الأيام أُخبر بنبأ مغادرة ابن الدويش وابن هذال القصيم وهما من أتباع الملك، فسارع المؤسس إلى إخبار أحد رجاله بقدومه إلى القصيم.
وبعدئذ، ذهب الملك عبد العزيز إلى قرية قريبة من قرى القصيم تدعى “الشقة” وهو المدخل الشمالي للقصيم باتجاه حائل على مسيرة ثلاث ساعات من قصر بريدة، لبس أفخر ما لديه من الثياب، فبدت العباءة – البشت – كأنها من نسيج الشمس الغاربة، فوقه رداء من قماش آخر هندي تمتزج ألوانه الزاهية بعضها ببعض، وفوق الاثنين، عباءة الوبر والرداء، معطف مزركش بالقصب، حسب ما ورد في الكتاب.
وخرج المؤسس يتلألأ ويفوح طيبًا، كأنه ظفر بالشمس فسلبها بهاءَها، فسرى تحت جناح الليل تحفُ به ستةٌ من الخدم، ويماشي مُنية قلبه جيش من الشوق حسب ما أورده أمين الريحاني ولكنه عندما دنا من بُريدة، ولم يكن بينه وبين تلك المنية القصوى غير مسير نصف ساعة، التقى برسول من خادمه شلهوب جاء يقول: إن محمدا أبا الخيل (أميري بُريدة) قد أقفل القصر وهو متأهب للحرب.
وكأن الليل حالف أبا الخيل، فقصف في تلك الساعة الرعد، ولعلع البرق في السماء، حسب رواية الريحاني للقصة فأمسى المؤسس حائراً لا يستطيع الدخول إلى بُريدة، فهطلت الأمطار، ولا العودة إلى معسكره الذي يبعد عنه مسافة ثلاث ساعات، فسمع نباح أحد الكلاب، فتنبّه المؤسس إلى الصوت، فإذا هناك بيت من الشعر، – الخيمة- فذهب الملك عبد العزيز إليها ليحتمي من المطر وما كان البيت غير خيمة صغيرة طولها ست أذرع وعرضها نصف ذلك، وفيها طائفة من البشر والمعزى، فقال الملك عبد العزيز: «يا أهل البيت نحن ضيوفكم» فأجابوه ولم ً يعرفوه: «أهلا ومرحبًا، ولكن البيت ضيِّق وذا الليل يسود الوجه.»
ودخل الملك المؤسس إلى تلك الخيمة فوجد عشرة أنفار كبار وصغار، فيهم عجوز مريضة، فضم المؤسس يديه بين جنبيه مرتعشاً من البرد، والمطر يصب من سقف الخيمة، وإحدى النساء المريضات في الخيمة تئن من وجعها، وآخر في الخيمة مجنون يصيح، والصغار يبكون، والكبار السالمون من علَل الحياة يتصاخبون، حسب ما ورد في كتاب تاريخ نجد وملحقاته لمؤلفه أمين الريحاني.
جلس الملك المؤسس في تلك الخيمة، وهو يتأمل حالتها وحالته، ويود لو كان أبو الخيل تحت سنابك ذاك الليل، أو في مجاري السيل، أو في مخالب العاصفة، أو تحت ذاك السقف الزارب بين العجوز المريضة والشائب المجنون، وهذه هي ليلة الظافر! وعندما أسفر الفجر ركب المؤسس فرسه وعاد إلى معسكره لييبِّس ثيابه وينظفها من الماء والوحل والأقذار، حتى أمست أكره لديه من أبي الخيل. فلما رأى جدران بيوتها تنهار من شدة السيل والأمطار، فأم بيت الأمري، وصل إلى تلك القرية وكان لا يزال يملك غرفةً ذات سقف وفيها نار مشبوبة، فشكر الله على ذلك.
وحسب رواية الكتاب فإن المؤسس الراحل بعدما يبَّس ثيابه، وأزال منها الأوحال ركب يقصد بُريدة، فلما وصل إلى القصر وجده مقفَلاً، فقرع الباب فسِئل: من أنت؟ فأجاب: «أنا ابن سعود.» فلم يسع َمن كانوا داخلا إلا أن يفتحوا.
ورأى المؤسس حينها أبا الخيل فوجده يرتعد خوفًا فسأله قائلا: «ما بالك قبَّح الله وجهك؟!» فأجابه أبا الخيل: إنهم يكذبون والله فيما يقولون. فقاطعه عبد العزيز قائلا: فأجابه: «اسكت! ما بيَّن أمرك إلا أنت.»
وبقيت هذه الليلة عالقة في مخيلة المؤسس سنوات طوال وهو يتذكر كيف مرت به تلك الليلة ليصفها لأبنائه وشعبه أن هذا الوطن لم يبنّ بسهولة بل كانت سنوات من التعب والخوف والحرب ليوحد أطرافه.