بقلم طلق المسعودي
المكان هو كبسولة الزمان، وهو دفتر التاريخ الحقيقي الذي لم يمسه تزييف أو يشوبه عبث، ومكة المكرمة منذ الأزل كانت محورًا أساسيًا في كثير من قصص التاريخ، بل كانت هي الوعاء الذي احتضن أحداثًا مفصلية حددت ثقافتنا وهويتنا كعرب ثم كمسلمين، حين وصفت (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ )، حتى أصبحت ( أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا)، تهفوا لها القلوب وتسعى لها الأقدام (رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) .
ولأن أم القرى هي كبسولة الزمان الحقيقية، والتي مر على ظهرها عبر التاريخ الكثير من الأقوام الذين غيروا وجه الأرض، بل غيروا معالم العالم بأسره حين خرج منها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليؤسسوا لأكبر أمبراطوريات العالم في ذلك الزمان، كان واجبًا علينا نحن ورثة تلك الحضارات وذلك الجيل العظيم أن نُبرز ذلك التاريخ ونضعه في موضعه الذي يليق به، ثم نفتح الباب على مصراعيه ليرى العالم أجمع ذلك الإرث الحضاري الحقيقي، والتاريخ العظيم الذي ذهبت لأجله دماء رجالٍ أشداء كانوا لا يخشون في الله لومة لائم، ولا يتأخرون في بذل الغالي والنفيس في سبيل الله، ليصنعوا مجدًا إسلاميًا تفخر به الأمة من بعدهم.
كنت في أحدى زياراتي لجمهورية مصر الشقيقة وحدث أن قمت بجولة سياحية على القرية الفرعونية ومن خلال تلك الزيارة تبادر لذهني سؤالًا مهمًا “لماذا لا يكون لدينا قرية تاريخية تحكي تاريخ مكة عبر العصور؟” فهذا التاريخ أعمق بكثير مما شاهدته في القرية الفرعونية كونها تحكي تاريخًا إسلاميًا لا زال أثره باقٍ إلى يومنا هذا، وليست حضارة شركية غابرة مُندثرة كتاريخ الفراعنة، تلك القرية التاريخية تُمثل مكة المكرمة عبر التاريخ، إذ يدخل الزائر ليرى مكة الوادي المهجور الذي لا زرع فيه ولا بشر ثم ينتقل إلى مراحل بناء الكعبة وقصة إبراهيم عليه السلام وإسماعيل إذ يساعده في البناء، ثم قصة الكبش والذبيح، ثم ينتقل الزائر عبر كبسولة تاريخية إلى منطقة مكة ما قبل الإسلام وتوضح في هذه المنطقة الأصنام حول الكعبة والشركيات التي كان يبتدعها الكفار والعادات الحسنة التي كانت في المنطقة قبل الإسلام مثل السقاية والرفادة وخدمة الحجاج، ثم ينتقل الزائر إلى منطقة مكة في فجر الإسلام الأول وما لاقاه نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت من تعذيب وتنكيل، ثم منطقة مكة بعد الفتح الإسلامي وقصص الفتح وتبيان حسن أخلاق المسلمين وصفحهم وتعاملهم الطيب مع المشركين رغم ما لاقوه منهم سابقًا، ثم يأتي بعد ذلك مرحلة أهم الأحداث التاريخية التي حدثت في المنطقة، مثل غزو القرامطة وتدميرهم للحجر الأسود، ثم يدخل الزائر إلى مرحلة العصر السعودي وهو مرحلة حكم المملكة العربية السعودية وتوضح في هذه المرحلة كافة الجهود والتوسعات التي حدثت منذ قيام دولة العدل المملكة العربية السعودية وحتى هذا اليوم، كما تُذكر أهم الأحداث التي نجحت المملكة بفضل الله ثم مؤسس هذه البلاد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه وكيف كانت جزيرة العرب قبل توحيده لها تعج بالفوضى والظلم ويعتريها الجهل.
تلك القرية التي أتحدث عنها ليست صور أو لوحات إنما هي بناء حقيقي وممثلين يرتدون نفس الملابس لكل حقبة زمنية، وبينما الزائر يمر عليهم في كبسولته المكيفة يوجد بداخلها تسجيل صوتي يتزامن مع مروره لتلك الأماكن فيشرح عن كُل مكان بالقصص القرآنية الحقيقية بلغة الزائر، وتصبح معلمًا سياحيًا دينيًا يُمثل ثقافتنا وهويتنا الحقيقية، والتي يجهلها كثير من الزائرين من خارج المملكة العربية السعودية، بل حتى أبناءنا من الجيل الجديد ، كما أرى أن تُلزم شركات السياحة الدينية والحج والعمرة بأن تضع زيارة هذه القرية ضمن برنامجها السياحي الديني لجميع المجموعات السياحية لديهم.
إن مكة المكرمة تتميز بخصوصية دينية وتفرد عن سائر بلدان العالم بوجود المسجد الحرام والمشاعر المقدسة التي يقصدها الملايين من المسلمين من كل حدب وصوب لأداء فريضة الحج ومناسك العمرة، وتعتبر مقومات السياحة الدينية فيها متوافرة بشكل جليّ وهي مهيأة لتكون من ركائز الاقتصاد المتماشية مع رؤية ٢٠٣٠م ، وهذه المقومات من شأنها أن تجذب السياح من شتى بقاع الأرض لأن مكة المكرمة غنية بتراثها وآثارها التي تضرب في أعماق التاريخ الإسلامي والإنساني على حد سواء، حيث تعتبر مركز العالم الإسلامي بسبب توجه قلوب المسلمين قبل عيونهم لرؤية تلك الأماكن الطاهرة، فأم القرى جاذبة أفئدة أكثر من مليار ومائتي مليون مسلم في شتى أرجاء الأرض، واستغلال ذلك ثقافيًا واقتصاديًا أمر في غاية الأهمية لتطور بلدنا الحبيب مع بقاء الجذور راسخة في عمق التاريخ.