الضربات التي وجهها سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف عسكرية داخل إيران، في وقت باكرٍ من يوم السبت 26 أكتوبر الجاري، لقيت إدانات سريعة وصريحة من مختلف دول “مجلس التعاون الخليجي” دون استثناء، حيث أعلنت المملكة العربية السعودية عن “إدانتها واستنكارها للاستهداف العسكري الذي تعرضت له الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، معتبرة ذلك “انتهاكاً لسيادتها ومخالفة للقوانين والأعراف الدولية”.
البيان السعودي أكد على موقف المملكة “الثابت في رفضها لاستمرار التصعيد في المنطقة، وتوسيع رقعة الصراع الذي يهدد أمن واستقرار دول المنطقة وشعوبها”.
الرياض حثت “كافة الأطراف على التحلي بأقصى درجات ضبط النفس وخفض التصعيد”، محذرة من “عواقب استمرار الصراعات العسكرية في المنطقة”، داعية “المجتمع الدولي والأطراف المؤثرة والفاعلة للاضطلاع بأدوارهم ومسؤولياتهم تجاه خفض التصعيد وإنهاء الصراعات في المنطقة”.
هذه اللغة السياسية الواضحة المستخدمة في البيان السعودي إلى ماذا تهدف؟ ولماذا جاءت مواقف دول “مجلس التعاون الخليجي” متسقة مع بعضها بعضا، رافضةً “استمرار تصاعد التوترات والعمليات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط”، ومحذرةً من “تداعياتها الخطيرة على المدنيين الأبرياء وتفاقم الوضع الإنساني الكارثي”، وفق ما جاء في بيان وزارة خارجية البحرين؟
بالعودة إلى البيانات التي أصدرتها دول “مجلس التعاون الخليجي”، يُلاحظ أنها ركزت على النقاط التالية:
• إدانة الهجوم العسكري الذي تعرضت له الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
• رفض انتهاك سيادة الدول ومخالفة القوانين والأعراف الدولية.
• رفض استمرار التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، وأيضاً رفض توسيع رقعة الصراع القائم.
• اعتبار التصعيد الحالي تهديداً مباشراً لأمن المنطقة وسلامتها.
• دعوة مختلف الأطراف إلى ضبط النفس ووقف التصعيد.
• دعوة المجتمع الدولي إلى التحلي بمسؤولياته والقيام بدور فعال لخفض التوترات في الشرق الأوسط.
• أهمية حماية شعوب المنطقة وتحديداً المدنيين العزل.
• التأكيد على أن الحوار والطرق الدبلوماسية السلمية هي الطريق الأمثل لحل الخلافات.
هذه النقاط الرئيسة اشتركت دول “مجلس التعاون الخليجي” الست في التأكيد عليها، كونها مفاتيح أساسية لأي بداية لنهاية الحرب القائمة حالياً في غزة ولبنان والمواجهات بين تل أبيب وطهران.
الدول الخليجية تُعتبر اليوم نموذجاً على حالِ الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة العربية، وهي دول تركز على الاستثمار الاقتصادي والتحديث الاجتماعي، ولديها رؤى متعددة لتنويع مصادر الدخل وتطوير بنية الدولة والحوكمة والاستثمار في الطاقة والتقنية والرياضة والعلوم والسياحة والبنية التحتية، وتدركُ أن أحد أهم الشروط الأساسية لتحقيق ذلك وجود بيئة مستقرة أمنياً وسياسياً في الخليج العربي والشرق الأوسط، وأن استمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة ولبنان لن تقود إلى تحقيق الاستقرار، بل سوف تكرس “سياسة الفوضى التي تنتهجها قوات الاحتلال الإسرائيلي”، وفق ما جاء في بيان وزارة الخارجية الكويتية.
من هنا، جاء التأكيد على ضرورة “تعزيز الحوار والالتزام بالقوانين الدولية واحترام سيادة الدول”، بوصفها “الأسس المثلى لحل الأزمات الراهنة” بحسب بيان وزارة الخارجية الإماراتية.
السعودية والإمارات والكويت والبحرين وعمان وقطر، تعتبر أن استمرار العمليات العسكرية لأكثر من عام لم يجلب الأمن لإسرائيل وفلسطين ولبنان، وأن الحرب قد يتسع نطاقها وتخرج عن السيطرة، مما يهدد بشكل مباشر الأمن الوطني والقومي لـ”دول مجلس التعاون الخليجي”، ولذا جاءت بياناتها صريحة في دعوتها لخفض التصعيد، وهي مواقف تنسجم مع سياساتها الخارجية المعلنة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم.
من جهة أخرى، تنتهج دول “مجلس التعاون الخليجي” دبلوماسية تجاه إيران تقوم على مبدأ “حسن الجوار” و”عدم التدخل في الشؤون الداخلية” و”احترام سيادة الدول”، وهذه السياسات، وإن تنوعت أساليبها من دولة لأخرى، إلا أنها اختارت “الحوار الجاد والفعال” كطريق رئيس لحل الخلافات القائمة مع جارتها الشرقية إيران، منتهجة خططاً عملانية بعيدة المدى ذات نفسٍ طويل، بهدف دفع طهران للانخراط في مشاريع التنمية والتحديث الإقليمية، والتخلي شيئاً فشيئاً عن سياسات دعم الميليشيات والخلايا النائمة في الشرق الأوسط، وإن كان ذلك أمراً لن يتم في القريب العاجل، إلا أنه قد يكون الطريق الأكثر سلامة والأقل كلفة.
هذه الدبلوماسية القائمة على الاحتواء والمزج بين الترغيب والحزم في آنٍ معاً، نجحت حتى الآن في تجنيب الخليج العربي مشكلات أمنية وسياسية حقيقية طيلة عام من الحرب الإسرائيلية. حيث جاء “اتفاق بكين” بين السعودية وإيران، في مارس 2023، ليكون بمثابة “شبكة أمان” إقليمية، حدت من منسوب التوتر في المنطقة، ومنعت أذرع إيران الخارجية من تنفيذ أعمال عدائية ضد السعودية وبقية دول “مجلس التعاون الخليجي”، رغم وجود اختلاف في وجهات النظر بين الرياض وطهران حول ما بعد 7 أكتوبر وعملية “طوفان الأقصى”، إلا أن هذا التباين جرى العمل على تنظيمه ونقاش تفاصيله وطرق إدارته. هذه الإدارة العقلانية – الهادئة للسياسات بين السعودية وإيران التي انتهجتها الرياض، تمت بعيداً عن المواقف التصعيدية، وفي اللقاءات الثنائية بين مسؤولي البلدين، بغية حفظ أمن الخليج العربي، وهو ما نجحت فيه الدبلوماسية السعودية بشكل واضح.
بالنسبة لإسرائيل، فإن بيانات دول “مجلس التعاون الخليجي” طوال العام الفائت، كانت صريحة في إدانتها لـ”الجرائم الإسرائيلية” ورفضها استهداف المدنيين، ودعوتها إلى وقف فوري وشامل لإطلاق النار، وتأكيدها على إطلاق مسار موثوق لعملية سلام تقود لإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة وإعلان دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وعليه، فإن بيانات دول الخليج العربية التي تدين استهداف إيران جاءت متكاملة مع بياناتها السابقة، وأيضاً لأنها لا تريد أن تعطي إسرائيل هدايا سياسية مجانية، فهي تعتبر أنه من الضروري “معالجة جذور وأسباب الأزمات في المنطقة من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي غير المشروع للأراضي الفلسطينية والعربية ووقف العدوان على قطاع غزة”، وفق ما جاء في بيان وزارة خارجية سلطنة عمان.
دول “مجلس التعاون الخليجي”، ومن خلال الاجتماعات الدائمة والزيارات التي يجريها وزراء خارجيتها للعواصم العالمية المختلفة، تسعى نحو تكوين رأي عام دولي داعم لـ”حل الدولتين”، منتهجة دبلوماسية نشطة تروم دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وبريطانيا وروسيا والصين إلى مزيد من الانخراط الحقيقي والفعال الذي يقود إلى إنهاء الحرب المستمرة منذ أكثر من عام، ووقف التصعيد بين إسرائيل وإيران، وبدء مرحلة جديدة من تاريخ الشرق الأوسط يسود فيها الأمن والاستقرار والسلم الإقليمي.